عبد اللطيف العلوي يكتب على صفحته الرسمية بموقع التواصل الاجتماعي فايسبوك عن أحزان "النّهضة العميقة"، وفيما يلي نص التدوينة:
(مصطلح النّهضة العميقة هو مصطلح ابتدعتُه منذ فترة للإشارة إلى الخميرة النّهضويّة الّتي لم تقدر أن تبتلعها الدّولة العميقة)
شاركت تقريبا في كلّ التّظاهرات الّتي دعا إليها "مواطنون ضدّ الانقلاب"، ولم يكن من العسير أن ألاحظ بمسح بصريّ عميق أو حتّى سريع، أنّ الحلقة الأولى الصّلبة للواقفين في كلّ مرّة في تلك المظاهرات، هم من جيل "النّهضة العميقة"، جيل محرقة الثّمانينات والتّسعينات، يأتون في كلّ مرّة من الأقاصي ويتحمّلون المشاقّ في سبيل أن يصرخوا للحرّيّة ولو صرختها الأخيرة.
هذا الجيل هو الآن في أواخر الكهولة وبدايات الشّيخوخه، وفيه حتّى شيوخ مازالوا يحاربون الاستبداد بنفس أحلام الشّباب الّتي غدرت بهم وتركتهم منذ سنين، بندوب في الوجه والرّوح والقلب على حدّ السّواء! لأنّهم لم يعرفوا في حياتهم سوى محاربة الاستبداد، وما عادوا يتصوّرون لها معنى آخر سوى ما عاشوا عليه!
كثيرون منهم كانوا يبحثون عنّي في تلك المظاهرات، وقد يراني أحدهم صدفة فيسرع إليّ ليسلّم ويغمرني بودّ عفويّ وحديث حميم قديم، رائحته من رائحة تلك المعاناة الّتي جمعتنا في الثّمانينات والتّسعينات، هم يعرفون أنّي منهم وإليهم، مثلما يعرفون أنّ كلّ حرّ وشريف منهم وإليهم، وانظر كيف يحتضنون لمين البوعزيزي وكيف يعظّمون الحبيب بوعجيلة ونور الدّين علوي والعيّاشي الهمّامي وغيرهم، تدرك أنّ دائرة الانتماء بالنّسبة إليهم قد اتّسعت مع الأيّام والسّنوات حتّى صارت تشمل الكثير من المختلفين وإن سلكوا طريقا آخر، لكنّه يؤدّي في النّهاية بالضّرورة إلى نفس الخندق!
الحلقة الثّانية للمشاركين هي في الغالب من فروعهم، أبناء وأحفادا أو أبناء عمومة، يعني من نفس الدّائرة الّتي عاشت محنة التّعذيب والتّغريب في الوطن، فبقي الأبناء يحملون في ذاكرتهم رواسب المأساة وتفاصيل الحكاية، حكاية المحنة الطّويلة والعمر المهدور بين السّجون والمحاكم ومراكز البوليس وساحات النّضال. بعض هؤلاء نهضويّون بالوراثة أو بالاقتناع، وبعضهم ائتلافيّون ينهلون من نفس المنبع لكنّهم يثورون على سياسة الآباء الّتي لم تؤدّ إلاّ إلى مزيد من فرعنة الفراعين.
كنت أمارس هوايتي القديمة في قراءة الوجوه وتشريح النّظرات، فأرى أمامي جيلا متعبا حزينا حائرا مستنزفا، يكاد يقتله اليأس لكنّه يرفض السّقوط والاستسلام.
جيل أثقلته المسافات الطّويلة وأنهكه الجحود ووالخذلان والنّكران، من داخل الحركة ومن خارجها على حدّ السّواء،
جيل هو الأكثر صبرا، وتحمّلا، وغفرانا، وتسامحا وتجاوزا لأخطاء الأعداء والأحباب،
جيل تعلّم كيف يصبر صبر الجمال، نصر قادته في الشّوارع وفي المنافي وفي السّجون، فخذلوه على الكراسي وفي مواقع القرار، وتصدّر بعض الفتية الذّهبيّين الّذين تبجّحوا بأنّهم لم يقوموا بتشغيل نهضويّ واحد، مثل العذاري، أو مثل الحمّامي الّذي صنعوا له سلالم من نضالاتهم فتسلّقها وطوّف بين الوزارات لينتهي اليوم بوقا للانقلاب، أو مثل بعض الانتهازيّين الّذين يعرفهم الجميع بأسمائهم وبأوصافهم ولا داعي إلى ذكرهم!
هذا الجيل الّذي يقف اليوم حائرا مكرها خلف جوهر بن مبارك، أملا في استرجاع شظايا من حلم تهشّم مرّة أخرى بلا سبب واضح، هذا الجيل المنبوذ من نخب الإعلام والسّياسة والمال والأمن، المطعون بكلّ خناجر التّشويه والإقصاء والمطارد بآلاف الأكاذيب والوصوم هذا الجيل الّذي تنحدر اليوم شمسه بسرعة أكبر نحو الغروب، كلّ يوم يسرق الموت أحد فرسانه ويشيّع إلى مثواه الأخير في جنازة باردة حزينة بلا نعي ولا تأبين،
هذا الجيل الّذي تذبحه الحيرة ولا يعرف أين وقع الخلل بالضّبط، لقد ضحّى لعقود طويلة وأعطى زهرة العمر في سبيل مشروع آمن به، لكنّ المشروع تبخّر واختفى فجأة يوم جاء أناس لا يعرفهم وقرّروا أن يمارسوا السّياسة بلا مشروع.
للأسف، لم يبق اليوم في ساحات المعركة المريرة الطّويلة ضدّ الاستبداد، سوى بقايا ذلك الجيل المتعب المغدور، السّاحة تفرغ عاما بعد عاما ويوما بعد يوم، كالغابة الّتي تحترق مع مرور السّنين ولا تتجدّد، والقادم مظلم ومخيف.